Copy

السبت، 29 سبتمبر 2018

الصبر الحقبقى

    إن بعض الناس يظنون أن المرء إذا انطوى على نفسه وانعزل عن الناس وترك المنكر وأهله ورأى المحرمات تنتهك وحدود الله تعطل والجهاد يلغى، وهو لا يتخذ موقفا تجاه ذلك بل هو مبتعد عنه وتارك للنهي عن المنكر، بعض الناس يظن أنه بذلك يكون صابراً.

      أو يفهم الصبر أن يدفع الأذى عن نفسه ويتفادى التعرض أن يناله شيء من ملاحقة أعداء الله فلا يجرؤ على قول كلمة الحق أو العمل بما يرضي الله، بل يبقى صامتا قابعا في إحدى الزوايا ويقول عن نفسه إنه صابر.

      إن هذا ليس هو الصبر الذي أعد الله لأهله جنات النعيم (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر 10 بل هذا هو العجز بعينه الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه: “أعوذ بالله من العجز والكسل والجبن والبخل والهم والحزن وغلبة الدين وقهر الرجال”(6).

      إن الصبر هو أن تقول الحق وتفعل الحق وتتحمل الأذى في سبيل الله الناتج عن ذلك دون أن تنحرف أو تضعف أو تلين.

      إن الصبر هو الذي رتبه الله على التقوى بقوله سبحانه: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) يوسف/آية90.

      إن الصبر هو الذي قرنه سبحانه بالمجاهدين (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) آل عمران 146.

      إنه الصبر على الابتلاء والصبر على القضاء الذي يقود إلى ثبات لا إلى اهتزاز، ويقود إلى تمسك بالكتاب لا إلى نبذه بحجة فداحة المصاب، والذي يزيد المرء قرباً من لا ابتعاداً عنه (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) الأنبياء 87.

      إنه الصبر الذي يشحذ الهمة ويقرب الطريق إلى الجنة، صبر بلال وخباب وآل ياسر “صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة”(7).

      صبر خبيب وزيد “والله لا أرضى أن يصاب محمّد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا سالم بأهلي”(8).

      صبر الذين يأخذون على يد الظالم دون أن يخافوا في الله لومة لائم “كلا والله لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض وليلعنكم كما لعن بني إسرائيل”(9).

      صبر الألى الغر الميامين أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم الصادق الأمين… صبر أصحاب الصحيفة ومقاطعي الشّعب ومهجري الحبشة والملاحقين لقولهم ربنا الله.

      صبر المهاجرين والأنصار في جهادهم أهل الشرك والفرس والروم… صبر الأسرى رهط عبدالله بن أبي حذافة… صبر المجاهدين المؤمنين الصادقين.

      الصبر أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ولا تضعف أمام الأذى في سبيل الله.

      الصبر أن تكون جنديا في جيش المسلمين الزاحف لقتال أعداء الله.

      الصبر أن تكون مصداق قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) آل عمران 186… وقوله سبحانه: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) محمّد 31… ثم قوله سبحانه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين @ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون @ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).

ــــــــــــــ

احاديث في فضل الصبر

روى البخاري (1469) ومسلم (1053) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ ) .

روى مسلم (918) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا " إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا ) .

وروى مسلم (2999) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) .

ايات فى الصبر

الحمد لله

" فإن الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو , وجنداً لا يهزم , وحصناً حصينا لا يهدم ، فهو والنصر أخوان شقيقان ، فالنصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، والعسر مع اليسر ، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ، ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد .

ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب .

وأخبر أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين ، فقال تعالى : ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) .

وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين ، فقال تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) .

وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً باليمن فقال تعالى : ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) .

وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط ، فقال تعالى : ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعلمون محيط ) .

وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصلاه إلى محل العز والتمكين فقال : ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) .

وعلق الفلاح بالصبر والتقوى ، فعقل ذلك عنه المؤمنون فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .

وأخبر عن محبته لأهله ، وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين ، فقال تعالى : ( والله يحب الصابرين ) .

ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون ، فقال تعالى : ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .

وأوصى عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .

وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون ، فقال تعالى : ( إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) .

وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها إلا أولو الصبر المؤمنون ، فقال تعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ) .

وأخبر تعالى أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسيء كأنه ولي حميم ، فقال : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) وأن هذه الخصلة ( لا يلقاها إلا الذين صبروا . وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) .

وأخبر سبحانه مؤكدا بالقسم ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) .

وقسَّم خلقه قسمين : أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة ، وخص أهل الميمنة أهل التواصى بالصبر والمرحمة .

وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييزاً لهم بهذا الحظ الموفور ، فقال في أربع آيات من كتابه : ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) .

وعلَّق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر ، وذلك على من يسره عليه يسير ، فقال : ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) .

وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور ، فقال : ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) .

وأمر رسوله بالصبر لحكمه ، وأخبر أن صبره إنما هو به وبذلك جميع المصائب تهون فقال : ( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) ، وقال : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) .

والصبر ساق إيمان المؤمن الذي لا اعتماد له إلا عليها , فلا إيمان لمن لا صبر له وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة .

فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم , وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم ، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " انتهى .

" عدة الصابرين " لابن القيم ( ص 3 – 5 ) .

الأربعاء، 22 مارس 2017

ارجي اية في القرآن

أرجى آية في القرآن(من الرجاء )

الايه الاولي:
قال صِديق الأمة أبو بكر - رضي الله عنه -: ولقد تلوتُ كتاب ربي من أَوَّلِه إلى آخره، فلم أجد أرجى من هذه الآية: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3].

فإن الله - جلَّ وعلا - قَدَّم غفران الذنب على قَبُول التوب، وهذه إشارةٌ جليَّة، وأمارةٌ بهية تشي بحب الله المغفرة لعبده، ولا عجَب؛ فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة!!

الآية الثانية:
قال فاروق الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنها آية الإسراء: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 84].

فإذا عَمِل الكلُّ على شاكِلته؛ فعمَلُ العبدِ الطاعة والمعصية، وعمَل الرب العفوَ والمغفرة!!

ولهذا حُقَّ للمُتضرِّع في صلاته أن يقول: اللهم اغفر لي، واعفُ عنِّي؛ فإن كانت شاكِلتي العِصيان والإجرام؛ فإن شاكلتك العفو والغفران والإكرام!!

الآية الثالثة:
قال علي وابن مسعود وابن عمر- رضي الله عنه -: إنها آية الزمر: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؛ ذلك أنها تمحو ذنْب الكافر الآيب، والآثم التائب، وقد روى ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أحِبُّ أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية))!

الآية الرابعة:
ورَدَ أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: إنَّا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى:5]؛ ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هتَف قائلاً: ((إذًا لا أرضى وواحدٌ من أمتي في النار)).

وقال أيضًا: ((لكل نبيٍّ دعوةٌ مُستجَابة فتعجَّل كل نبيٍّ دعوته، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة))؛ أخرَجه مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.

الآيتان الخامسة والسادسة:
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنها آية الرعد: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الرعد: 6] أي: إذا أصَرُّوا على الكُفر، أما إن بقوا على أصل الإيمان، فهؤلاء يَغفِر لهم الرحمن، حتى يبلغوا الجِنان، بسلام واطمئنان وأمان!!

وروي عنه أنه قال: إنها آية طه: ﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [طه: 48].

ودِلالة الآية: إن المؤمن الذي لم يَكذِب ولم يتولَّ؛ فلا يَناله شيء من العذاب أبدًا.

يؤيِّد هذا أن الآية وردت في سياق المُسَاجلة بينَ السَّحَرة التائبين وفرعون، وقد جاء في فاتحتها أمرٌ رباني إلى موسى وهارون: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43-44]، فَذُهِل قتادة كيف يكون القول اللين، والخطاب الهين في حقِّ رأس الكفر فرعون؟! حتى صدَح قائلاً: ما أحَلمَك ربنا وما أكرَمك! أإذا كان هذا حِلمك وكَرَمَك بمن قال: أنا ربكم الأعلى؛ فكيف حِلمُك وعفوكُ وكرمكُ بِعَبدٍ سجدَ بينَ يديك وقال: سبحان ربِّي الأعلَى؟!!

الآية السابعة:
وقال بعض أهل العلم: إنها آية الدَّين، أطول آية في القرآن.

ذلك أن الله - جلَّ وعلا - أسفَر في صفحة كاملةٍ من كتابه عن الوسائل الكفيلة بصيانة الدَّين من الضياع، حتى لو كان حقيرًا يسيرًا، صغيرًا أو كبيرًا؛ كما قال الله - جلَّ وعلا - في الآية: ﴿ وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ﴾ [البقرة: 282].

فأنتَ ترى أن الله - جل جلاله - يُشدِّد في لزوم صيانة عبده المسلم، حتى لو كان صغيرًا كمائة دِرهَم، مما يدُل على بالِغ العناية الإلهية المذهلة لمصالح عبده، وهذا يشي بأن اللطيف الودود لا يُضِيع على عبده يوم القيامة مثقال ذرةٍ في صالحه، خاصة إذا نزل الهَول به، واشتدت حاجته إلى ربه، بل سيَصون عمله، ويحفظ أجرَه، حتى يرفعه به درجات في عليِّين، بعد أن ﴿ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152].

الآية الثامنة وفي دفتيها التاسعة:
وقال بعض أهل العلم: إنها آية فاطر: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [فاطر: 32-33]

فإن الله - جلَّ وعلا - أورَث كتابه من اصطَفى من خَلْقه، وجعل ممن اصطفى الظالمَ لنَفْسه، فضلاً عن المقتصِد في الطاعات، والسابق في الخيرات.

والظالم لنفسه هو أحد الذين ﴿ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، و"عَسَى" من الله واجِبة، ولهذا عَدَّ أبو عثمان النهدي هذه الآية أنها أرجى آية في القرآن كلِّه!

والمقتصِد هو الذي يُطيع الله ولا يَعصيه، لكنه لا يتقرَّب إليه بالنوافل - وإن نَدُرتْ مساوئه.

أما السابق بالخيرات، فذاك الذي يأتي بالواجِبات، ويفعل المُستحبَّات، ويجتنِب المحرَّمات والمكروهات، وبالجملة فالطَّاعة دَيدَنُه، والقُرْبة مخلوطةٌ بِلَحْمِهِ ودَمه!

ثم آوى الله الفئات الثلاثة إلى جنَّته بقوله: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ فوَاو ﴿ يَدْخُلُونَهَا ﴾ واو جمعٍ، تُدخِلُ في دفَّتيها الظالم لنفسه، والمقتصِد، والسابق بالخيرات على التحقيق!

وهذه بِشارة قرآنية أذهَلت العلماء حتى صدَح أحدهم قائلاً:
حُقَّ لهذه الواو أن تُكتبَ بمَاء الذهب بل بمَاء العينين!!

وهكذا تَمَّ وعْد الله بالجنة لجميع المسلمين، خاصةً أنه قال بعدها مُتِّصِلاً بها: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ [فاطر: 36][1].

الآية العاشرة:
روي أن عليًّا - رضي الله عنه -: قال: هي قول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

وجه الدلالة:
إن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صِنفين: صنِفٌ كَفَّر ذنوبهم بالبلايا والرزايا، وصِنفٌ عفا عنهم؛ فإنه أهل الكرم والعطايا، ومعلومٌ أن الكريم لا يعود في كرَمه، ولا يرجِعُ في عفوه!

وعليه:
فإن العبد إذا أُصِيب بمصيبةٍ جزاء ما كسبت يداه، يَبْعُد أن يُعذِّبه الله عليها ثانيةً في أخراه؛ ذلك أن الكريمَ إذا عاقَب مرةً لا يعاقِب ثانية، بل يَهَب صاحبها العفو والعافية، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ الآية: ((ما عفا الله عنه، فهو أعزُّ وأكرَم من أن يعود إليه في الآخرة، وما عاقَب عليه في الدنيا، فالله أكرَم من أن يُعيد عليه العذاب في الآخرة))[2]!!

ولهذا كان من الحكمة الإلهية ألا يُعاقَب الكافرُ في دُنياه؛ حتى يُوافَى به عذابًا شديدًا في أُخراه[3]!!

الآية الحادية عشرة:
وقالت رابعة العدوية: إنها قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، ثم علَّلت بقولها: إن الله تعالى إذ يقول: إن الشَّيطان لكم عدوٌ فاتَّخِذوه عدوًا؛ كأنَّه يقول لنا: إنني حبيبُكم فَاتَّخِذُونِي حَبِيبًا!!

الآية الثانية عشرة:
وقال بعضهم: إنها قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

وهذه حقًّا إشارةٌ نفيسة!!

فإن الله تعالى - بوافِر فضلِه - يُخبِر أن العبد بعد خروجه من سجن الدنيا راجعٌ إليه، واصفًا نفسه أنه مولى عبده، وحبيبه، ولا أعزَّ للعبد من ساعةٍ يعود فيها إلى مولاه، الذي فطَره وسوَّاه، خاصةً أنه عبَده في الدنيا دون أن يراه، فإِنَّ الظنَّ بالفضل الإلهي أنه سيُكرِم عبده بقدرٍ نَعجِز عن إدراك قَدْره أو فَحْواه!!

ثم إن الله مولى الذين آمنوا كما نَطقتْ بذلك سورة محمد، ولم تتقيَّد الولاية بالزُّهاد والعباد، أصحاب الأوراد والاجتهاد، أو بالعلماء والشهداء؛ إنما جعلها الله ولايةً عامة تَنال ذوي المعصية؛ فضلاً من الله ورحمة!!

الآيتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة:
وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: إنها قول الله تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحجر:49].

وقال بعضهم: إنها قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ [الشورى:19].

ودلالة الآيتين ظاهرة لا تخفى.

هذه تمام أربع عشرة آية، ثم إني لن أُرَجِّح بينها؛ لتجتهد فيها، وحسْبِي أنِّي ذكَرتُ لكَ أرجى آيةٍ عند أصحابها، فهُم الذين تذَوَّقوا القرآنَ بِطَعمٍ خاص، وفَهمٍ خاص، ولعلَّك بهذا الباب الجَديد؛ تتَّخِذ به سبيلاً إلى ربك فتمُدنا بِمَزِيدٍ، وفَهْمٍ سديد!!

لكن عليك أن تتذكَّر أن هذا القرآن إن أعطيتَه كلَّكَ أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك لم يُعطِك شيئًا، وأنه كتاب عزيزٌ لا تتفتَّق معانيه؛ إلا لمن يُعانيه!!

هذا، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا المصطفى محمد، وعلى آله وصحْبه والتابعين، والحمد لله رب العالمين.

السبت، 12 مارس 2016

من أي القلوب قلبك ؟

القلوب ثلاثة :
الأول : القلب السليم : وهو الذي تمكَّن فيه الإيمان ، وأصبح عامراً بحب الله ورسوله ، وهو الذي سَلِمَ من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ، ومن كل شبهة تعارض خبره ، وهو الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به ، كما قال تعالى : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) .
الثاني : القلب الميت : وهو ضد الأول ، فلا حياة فيه ، وصاحبه لا يعرف ربَّه ، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه ، بل هو واقف مع شهواته ولذاته ، منقاد لها ، أعمى يتخبط في طريق الضلالة ، إن أحب أو أبغض فلهواه ، وإن أعطى أو منع فلهواه ، فهواه مقدِّم عنده على رضا مولاه.
الثالث : القلب المريض : وهو الذي غزته الشبهات والشهوات حتى شغلته عن حب الله ورسوله ، فأصبح معتلاً فاسداً ، وهو قلب له حياة وبه مرض ، وهو لما غلب منهما ، إن غلب عليه مرضه التحق بالقلب الميت ، وإن غلبت عليه صحته التحق بالقلب السليم .