Copy

الخميس، 18 سبتمبر 2014

من أركان التوبة كما يبينها الإمام الغزالي:

الإمام الغزالي رحمه الله تعالى, يبين أن التوبة أساسها: علمٌ، وندمٌ، وعمل، إن صح التعبير للتوبة أركانٌ ثلاثة: العلم، والندم، والعمل، أو كان يقول: علمٌ، وحالٌ، وعمل.
فالتوبة؛ علم وحال وعمل، علم لا بد من أن تعرف شرع الله, من أجل أن تقيس أعمالك بهذا الشرع، الشرع مقياس في كسب المال، في إنفاق المال، في العلاقات الاجتماعية، في الحواس الخمس، كيف أنظر؟ كيف أغض بصري؟ ماذا أسمع؟ ماذا ينبغي أن أسمع؟ ماذا ينبغي ألا أسمع؟ لا بد من معرفة أوامر الشرع، فالتوبة من أركانها العلم.
وركنها الثاني: الحال، يعني لا بد من أن يشعر التائب بندمٍ شديد على ما مضى من ذنوب، هذا الندم يؤكد صحة توبته، وهذا الحال حال الندم, لا بد من أن ينقل الإنسان إلى حالٍ آخر، أو إلى عمل، ينطلق إلى طاعة الله، يلغي كل معصية، كل مخالفة، يصحح كل مخالفة متعلقة بحقوق العباد، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ الاحقاف ٣١

هذه (من) للتبعيض، يعني يغفر لكم بعض ذنوبكم المتعلقة فيما بينكم وبين الله عزَّ وجل، الذنب الذي بينك وبين الله، الله سبحانه وتعالى يغفره، ولكن الذنب الذي بينك وبين العباد, لا بد من أن يغفر لك العباد، لهذا جاء في قوله تعالى
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾

فلا بد من علم، ولا بد من حالٍ، ولا بد من عمل، النبي عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((النَّدَمُ تَوْبَةٌ))

[أخرجه أحمد في مسنده]
ومعنى:

((النَّدَمُ تَوْبَةٌ))
يعني لخص العلم, والحال, والعمل بكلمة واحدة، وهذه من روائع إيجازه: لا بد من علمٍ أوجب الندم، ولابد من حالٍ دفع إلى العمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:

((النَّدَمُ تَوْبَةٌ)).
لمجرد أن تندم, معنى ذلك: أنك قد علمت أن هذه مخالفة للشرع، ولمجرد أنك قد ندمت، تعقد العزم على ألا تعود إلى مثلها ثانيةً، وانتهى الأمر.

((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)).

بعض المؤمنين الصادقين, يحاسب نفسه حسابًا يوميًّا، وحسابًا دقيقًا، فإذا زلت قدمه، أو أخطأ لسانه، أو وقعت منه نظرةٌ لا ترضي الله عزَّ وجل، أو وقعت منه كلمةٌ لا ترضي الله عزَّ وجل، يبادر بعملٍ صالح, يمحو به تلك الخطيئة، لقول الله تعالى:

﴿إِنَّ الْحَسَناَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾

[سورة هود الآية: 114]

فمؤمن تكلم عن أخيه، وثرثر، وتكلم عن أخيه، ووقع في الغيبة، يلزم نفسه بصدقةٍ.
الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه, كان إذا حلف يميناً في البيع والشراء، كان يلزم نفسه بمبلغٍ معين، ثم بدأ يرفع هذا المبلغ، إلى أن كف عن حلف اليمين في البيع والشراء، قال عليه الصلاة والسلام، طبعاً اليمين صادق، لكن الأكمل لا تحلف، لكن اليمين الكاذبة كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها:

((الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ))

[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة]

يقول الشاعر:

لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده  ولا الصبابة إلا مَن يعانيها
إذا تاب الإنسان إلى الله توبة نصوحا، وعاهد الله على أن يلزم نفسه بطاعة الله بكل ما أمر الله، يلقي الله في قلبه طمأنينةً، وتجلياً، ونوراً, لا يعرفه إلا مَن ذاقه.

٢﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [سورة الزمر الآية: 53]

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

((يَا ابْنَ آدَمَ, إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي, غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي, يَا ابْنَ آدَمَ, لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ, ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي, غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي, يَا ابْنَ آدَمَ, إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا, ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا, لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
إذا رجع العبد العاصي إلى الله, نادى منادٍ في السموات والأرض, أن هنئوا فلاناً, فقد اصطلح مع الله.
العجب العجاب: أن ترى إنساناً مقيماً على معصيةٍ، وباب التوبة مفتوح، والأيام تمضي، لو نظرت إلى ساعتك، انظر إلى عقرب الثواني, كلَّما تحرك هذا العقرب درجةً واحدة، فقد نقص العمر ثانية، واقتربت من الموت ثانية, صدق القائل:

دقات قلب المرء قائلةٌ  للـــه إن الحيـاة دقائـقٌ وثوانٍ
فارفع لنفسـك قبل موتك ذكرها  فالذكر للإنسـان عمرٌ ثانٍ
إذا أيقن الإنسان بالموت، وإذا أيقن أن هناك إلهاً عظيماً, سيحاسبه عن كل عمله, قال تعالى:

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾

[ سورة الحجر الآية: 92]

﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة الحجر الآية: 93]
وأنه بعد الموت لا رجعة إلى الدنيا، وأنه إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها، أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها، فماذا ننتظر؟.

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [سورة الزمر الآية: 53]

  عن أَبِي ذَرٍّ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:

((يَا عِبَادِي, إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي, وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ, فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ, فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ, فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ, يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ, يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ, مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ, يَا عِبَادِي, إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ, ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ, فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))

[أخرجه مسلم في الصحيح وأحمد في مسنده]

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

الحج ٣

• وقال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:196]

المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت ويسعى، فيكون متحللا بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين:
الأول: أن الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء. وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو، الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه؛ وروي عن مالك رحمه الله أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيه، وهو خلاف قول الجمهور.. وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى، وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز.

الأمر الثاني: ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي، فمن ذلك ما رواه الشافعي في «مسنده»، والبيهقي عن ابن عباس أنه قال: «لا حصر إلا حصر العدو». (12)
ومعنى الآيات: (وأتموا الحج والعمرة لله) أدوهما بحقوقهما (فإن أُحصِرتم) منعتم عن إتمامها بعدو (فما استيسر) تيسر (من الهدي) عليكم وهو شاة (ولا تحلقوا رؤوسكم) أي لا تتحللوا (حتى يبلغ الهدي) المذكور (محله) حيث يحل ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويُفَرَّق على مساكينه ويحلق وبه يحصل التحلل (فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه) كقمل وصداع فحلق في الإحرام (ففدية) عليه (من صيام) الثلاثة أيام (أو صدقة) بثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين (أو نسك) أي ذبح شاة و أو للتخيير وألحق به من حلق لغير عذر لأنه أولى بالكفارة ، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره (فإذا أمنتم) العدو بأن ذهب أو لم يكن (فمن تمتع) استمتع (بالعمرة) أي بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام (إلى الحج) أي إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره (فما استيسر) تيسر (من الهدي) عليه وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به والأفضل يوم النحر (فمن لم يجد) الهدي لفقده أو فقد ثمنه (فصيام) أي فعليه صيام (ثلاثة أيام في الحج) أي في حال الإحرام به، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة، والأفضل قبل السادس لكراهة صوم يوم عرفة، ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي (وسبعة إذا رجعتم) إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج، وفيه التفات عن الغيبة (تلك عشَرَة كاملة) جملة تأكيد لما قبلها. (ذلك) الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي، فإن كان فلا دمَ عليه ولا صيام وإن تمتع. وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان، فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن أو تمتع فعليه ذلك، وهو أحد وجهين عند الشافعي والثاني: لا، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن وهو من أحرم بالعمرة والحج معا أو يدخل الحج عليها قبل الطواف (واتقوا الله) فيما يأمركم به وينهاكم عنه (واعلموا أن الله شديد العقاب) لمن خالفه. (13)

الحج ٢

وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة:197]
أي وقت الحج أشهر معلومات، وهي: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر (8) قال مالك وأبو حنيفة والنخعي: يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة.. واحتج النخعي بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة:189] إذ جعل جميع مواقيت للحج ولم يفصل، وهذا احتجاج ضعيف، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج، بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا، مع التوزيع في التفصيل فيؤقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة. (9)
قال ابن عاشور: واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير الكشاف، وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم، وقال: «من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل» فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلا: بماذا فسرت قوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}؟ وأنه وجم لها. وأنا أحسب -إن صحت هذه الحكاية- أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج، ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال، فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى. (10)

وقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة، وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح، كلبسه الحرير في الصلاة، والتطريب بقراءة القرآن، لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة. (11)

الحج

قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }[آل عمران:97]
والاستطاعة وردت مطلقة, وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, بالزاد والراحلة, لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها, فإن المريض, والخائف, والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة, والزمن, وكل من تعذر عليه والوصول, فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج, وإن كان واجداً للزاد والراحلة.(1) وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها، واتحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتا في كتب التفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: السبيل القدرة، والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم. واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة.(2)
• وقال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:27]
قال ابن كثير: قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً، لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم .. وعن ابن عباس، قال: ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشياً، لأن الله يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ}. والذي عليه الأكثرون: أن الحج راكباً أفضل، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكباً مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم.(3)